کد مطلب:370263 دوشنبه 21 خرداد 1397 آمار بازدید:812

الفصل الرابع لا تقتلوا الخوارج بعدی












الصفحة 382












الصفحة 383


لا تقتلوا «الخوارج» بعدی:


وبعد.. فإننا فی نفس الوقت الذی نجد فیه أمیر المؤمنین (علیه السلام) یحارب «الخوارج»، ویستأصل شأفتهم فی واقعة النهروان، وغیرها من الوقائع..


ونجده أیضاً یأمر أصحابه بقتل كل من دعا إلى شعارهم، حتى لیقول: «ایاكم الفرقة، فان الشاذ من الناس للشیطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب، إلا من دعا إلى هذا الشعار، فاقتلوه ولو كان تحت عمامتی هذه یرد (1) شعار الخوارج»(2).


نراه فی مقابل ذلك ینهى عن قتال «الخوارج» بعده، فیقول: «لا تقتلوا الخوارج بعدی، فلیس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه، أو فأدركه»(3).


وسیأتی أن الإمام الحسن (علیه السلام) قد قال ذلك لمعاویة..


ثم أخذه عمر بن عبد العزیز فخاطب به بعض «الخوارج» ایضاً.


____________



(1) الظاهر: یرید (2) ربیع الابرار ج2 ص 140.


(3) نهج البلاغة، بشرح عبده، الخطبة رقم58 وشرح النهج للمعتزلی ج5 ص98 والعقود الفضیة ص41 و63 وفجر الاسلام ص 263 والبحار ط قدیم ج8 ص572 وسفینة البحار ج1 ص384.













الصفحة 384


وعلى كل حال، فانه (علیه السلام) قد اوضح مراده من هذا النهی فی نصوص أخرى، فقد روی عنه (علیه السلام) أنه سمع رجلاً یسب «الخوارج»، فقال: «لا تسبوا الخوارج.. إن كانوا خالفوا إماماً عادلاً أو جماعة، فقاتلوهم، فإنكم تؤجرون فی ذلك، وإن خالفوا إماماً جائراً، فلا تقاتلوهم، فإن لهم بذلك مقالاً»(1).


وفی نص آخر: «أما إذا خرجوا على امام هدى فسبوهم، واما إذا خرجوا على امام ضلالة، فلا تسبوهم، فان لهم بذلك مقالاً»(2).


وتفصیل الكلام فیما نفهمه من اسباب نهیه (علیه السلام) عن حربهم، على النحو التالی:


أهداف علی (علیه السلام) فی قتال «الخوارج»:


إن من الواضح: أن علیاً (علیه السلام) قد واجه «الخوارج» بالحرب، بعد أن خرجوا على امامهم، ونقضوا البیعة، وأفسدوا فی الأرض، وأخافوا السبیل، وبدأوه بالقتال. فأقام علیهم الحجة، ثم قاتلهم. وكان قتاله (علیه السلام) لهم یهدف إلى عدة أمور، نذكر منها:


1 ـ دفع غائلة افسادهم فی الارض، وتعدیهم على الحرمات، ومنعهم من ارتكاب الجرائم والموبقات، وإشاعة حالة الأمن والسلام فی الأمة..


____________



(1) راجع: كنز العمال ج11 ص39 عن خشیش فی الاستقامة، وابن جریر. والتهذیب للشیخ الطوسی ج6 ص145 ومصادر نهج البلاغة ج2 ص40 عنه وعلل الشرایع ص218 والبحار ط قدیم ج8 ص581 والوسائل ج11 ص60.


(2) كنز العمال ج11 ص 310 عن ابن جریر و309 عنه وعن خشیش فی الاستقامة..













الصفحة 385


2 ـ إعلان انحرافهم لكل احد، ومجانبتهم للحق، واصرارهم على الباطل، بهدف تحصین الناس من ضلالاتهم.. ومن الوقوع فی حبائل مكرهم، أو من التأثر بشعاراتهم.


3 ـ انه لابد للامام من ان یحفظ الحكومة الإلهیة، والنظام العادل، وان یدافع عنه حین یتعرض للتهدید، لأنه أمانة الله سبحانه بیده، ولا یحق له التفریط فیه وتمكین أهل الضلال والانحراف والظالمین منه، فی أی من الظروف والأحوال.


4 ـ إنه لابد من مجازاة الناكث لبیعته، والمفرط بعهده والناقض لمیثاقه. فإن بذلك تستقیم الحیاة، وتحفظ مصالح العباد، ویشیع الأمن والسلام، والنظام فی البلاد..


قتال «الخوارج» دفاع عن الأمویین:


وقد كان علی (علیه السلام) یعلم بأن «الخوارج» لن یمكنهم الامساك بأزمة حكم قادر على البقاء، وسیكون قتالهم بمثابة الدفاع عن الحكم الأموی، وتأكید سلطانه، فلماذا اذن تهدر الطاقات، ویقتل المؤمنون الخلَّص، والصفوة الأبرار فی قتال لا ینتج إلا ترسیخ حكم الجبارین، الذی لابد من زعزعة أركانه وتقویض دعائمه، وهو القضیة الكبرى والأساس؟!.


نعم إن «الخوارج» بعده (علیه السلام) سیقاتلون الأمویین الذین هم اشد خطراً على الإسلام والأمة من «الخوارج».. فقتالهم ـ والحالة هذه ـ إنما یعنی الدفاع عن الحكم الاموی البغیض، ومساعدته على احكام قبضته على ازمة الأمور، ولم یكن ذلك من مصلحة الدین والأمة بحال.












الصفحة 386


الأمویون أخطر من «الخوارج»:


وقد أشار أمیر المؤمنین (علیه السلام) إلى خطر الأمویین، فقال: «إلا ان أخوف الفتن عندی علیكم فتنة بنی أمیة، فإنها فتنة عمیاء مظلمة، عمت خطتها، وأصاب البلاء من أبصر فیها، وأخطأ البلاء من عمی عنها.


وأیم الله، لتجدن بنی أمیة لكم أرباب سوء، كالناب الضروس، تعذم بفیها، وتخبط بیدها، وتزبن برجلها، وتمنع درها.. لایزالون بكم حتى لا یتركوا منكم إلا نافعاً لهم، أو غیر ضائر بهم. ولا یزال بلاؤهم حتى لا یكون انتصار أحدكم منهم إلا كانتصار العبد من ربه، والصاحب من مستصحبه. ترد فتنتهم شوهاء مخشیة، وقطعاً جاهلیة. لیس فیها منار هدى، ولا علم یرى»(1).


وحینما طلبوا منه (علیه السلام) المسیر إلى «الخوارج» قال مرغباً لهم بالمسیر إلى أهل الشام: «سیروا إلى قوم یقاتلونكم كیما یكونوا جبارین ملوكاً، ویتخذوا عباد الله خولاً»(2).


وقال (علیه السلام) فی نفس هذه المناسبة ایضاً: «قاتلوا الخاطئین، الضالین، القاسطین، الذین لیسوا بقراء للقرآن، ولا فقهاء فی الدین، ولا علماء فی التأویل، ولا لهذا الأمر بأهل سابقة فی الإسلام. والله، لو ولوا علیكم لعملوا فیكم بأعمال كسرى وهرقل»(3).


____________



(1) نهج البلاغة [بشرح محمد عبده] ج1 ص 183 و184 الخطبة رقم 89 والبحار ط حجریة ج8 ص 558 والغارات ج1 ص 10 وما بعدها. وتقدمت مصادر اخرى لهذا النص، فلتراجع..


(2) الكامل فی التاریخ ج3 ص 341.


(3) الكامل فی التاریخ ج3 ص 339..













الصفحة 387


ویلاحظ: انه (علیه السلام) قد قال هذا الكلام بعد اشارته لفتنة «الخوارج» التی ماج غیهبها، واشتد كلبها، وفقأ هو عینها، على حد تعبیره (علیه السلام)..


ولیراجع كذلك ما قاله (علیه السلام) فی نهج البلاغة، شرح عبده، الخطبة رقم 94.


وقد وصف أبو حمزة الخارجی بنی أمیة بأنهم «فرقة ضلالة، بطشهم بطش جبریة، یأخذون بالظنة، ویقضون بالهوى، ویقتلون على الغضب، ویحكمون بالشفاعة، ویأخذون الفریضة من غیر موضعها، ویضعونها فی غیر أهلها»(1).


إذن.. فـ«الخوارج» رغم كل جرائمهم وموبقاتهم، وشدة انحرافهم هم أولى بالحق من الأمویین، كما قال علی (علیه السلام) بعد فراغه من النهروان: «لا یقاتلهم بعدی إلا من هم أولى بالحق منه»(2).


وأعظم من ذلك كله، وأدهى وأمر: أنهم ـ أعنی الأمویین ـ قد تصرفوا فی عقائد المسلمین، وتلاعبوا بها، حسبما رأوا أنه یخدم مصالحهم، ویوافق أهواءهم.


فأدخلوا فكرة الجبر فی عقائد المسلمین ـ باسم عقیدة القدر، وغلوا فیه، وجعلوه هو التوحید الخالص. الأمر الذی نتج عنه أن لم یعد الإنسان یشعر بمسؤولیة أعماله السیئة، وتلاشت قیمة الدین والتدین فی النفوس.


____________



(1) الأغانی ج20 ص 105 ـ 108 والبیان والتبیین ج2 ص 124.


(2) تهذیب الاحكام للطوسی ج6 ص 144 ووسائل الشیعة ج11 ص 60.













الصفحة 388


وكما أن أولئك الذین كانوا مقربین من الحكم والحاكمین من علماء أهل الكتاب، وتلامذتهم ومن أمثال: كعب الاحبار، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وابی هریرة، وتمیم الداری، ونظرائهم، قد ادخلوا فی الدین الكثیر من عقائد أهل الكتاب الفاسدة والمشینة. ومنها عقیدة التجسیم الإلهی، فسلبوا الناس بذلك البصیرة فی الدین، وتبلبلت العقول، وعمیت المذاهب، وأصبح الإنسان المسلم یجد أمامه الكثیر من المتناقضات، والأمور اللامعقولة واللامفهومة، فیما زعم انه من الحدیث النبوی.


الأمر الذی جعل أعمق الایمان عندهم هو دین العجائز، حتى صار الاكابر یوصون به الأصاغر، فیقولون: «علیكم بدین العجائز».


ورووا عن النبی (صلى الله علیه وآله) قوله: «اذا اختلفت امتی فی الأهواء، فعلیكم بدین الاعراب».


هذا كله، عدا عن أنهم بهدف إبعاد علی (علیه السلام) وولده عن مقام الخلافة قد اظهروا الغلو الفاحش فی شأن الخلفاء الثلاثة، حتى جعلوا عقیدة إمامتهم وخلافتهم جزءاً من الدین، بل ومن أعظم أركانه،وربما صار الاعتقاد بها أزید من اعتقاد الشیعة بعلی وسائر الأئمة الأطهار علیهم الصلاة والسلام.


وقد كان ذلك قبل عهد معاویة، فإن عمرو بن العاص قد جعل الاعتقاد بخلافة الشیخین تلو عقیدة التوحید والنبوة فی نفس مجلس التحكیم(1) فراجع.


____________



(1) كنز العمال ج11 ص 131 عن ابن سعد، عن ابن عمرو..













الصفحة 389


«الخوارج» أقل خطراً؟! لماذا؟:


أما دعوة «الخوارج»، فلم یكن لها ذلك الخطر وذلك لما یلی:


أ: «الخوارج» أعراب:


إن «الخوارج» كانوا عموماً أعراباً جفاةً، ولم یكن لدیهم ثقافة ومعرفة متمیزة، بحیث یشكلون معها خطراً على الدین بشبهاتهم وانحرافاتهم.


ب: دعوة «الخوارج» بعیدة عن الفطرة:


إن دعوتهم لم تكن تنسجم مع الفطرة، ولا تتقبلها العقول، بل ربما تستهوی بعض شعاراتهم بعض البسطاء والسذج لبعض الوقت، ثم لا تلبث ان تنحسر، وتتلاشى بمجرد عودة الإنسان إلى فطرته، والاستسلام للعقل السلیم، والفكر المستقیم، ولاسیما إذا لاحظنا حدتهم فی التعامل مع غیرهم ـ كما المحنا إلیه غیر مرة.


إلى جانب ذلك طبیعة تعالیمهم الدینیة، وكمثال على ذلك نذكر أن فرقة الأزارقة بزعامة نافع بن الأزرق قد كانت أكبر وأعظم فرقهم، إذ كان مع نافع عشرة من أمراء «الخوارج»، بینما لم یكن مع النجدات سوى أمیرین، أما سائر الفرق، فواحد، أو بدونه(1).


ولم تكن فرقة قط أكثر عدداً، ولا أشد منهم شوكة(2)، وقد استولوا على الاهواز، وما وراءها من ارض فارس وكرمان، وجبوا خراجها(3).


____________



(1) راجع: شرح نهج البلاغة لابن میثم ج2 ص 154..


(2) الفرق بین الفرق ص83 وهامش الملل والنحل ج1 ص 118 و119..


(3) الملل والنحل ج1 ص 119 وشرح النهج لابن میثم ج2 ص 154 والفرق بین الفرق ص 85 وراجع ص 63 وتهذیب تاریخ دمشق لابن عساكر ج4 ص 147، وغیر ذلك..













الصفحة 390


ونحن نجد هؤلاء یقولون بكفرجمیع ماعداهم، ولا یحق لأصحابهم المؤمنین أن یجیبوا احداً من غیرهم إلى الصلاة إذا دعا إلیها، ولا أن یأكلوا من ذبائحهم، ولا ان یتزوجوا منهم، ولا یتوارث الخارجی وغیره.ویكون الغیر مثل كفار العرب، وعبدة الأوثان، لا یقبل منهم الا الإسلام أو السیف، ودارهم دار حرب، ویحل قتل اطفالهم ونسائهم.ویحل الغدر بمن خالفهم، وكذا القعدة عن القتال مع قدرتهم، ولو كان هؤلاء القعدة على مذهبهم. ولا یجیزون التقیة.


ویجوز عندهم ان یبعث الله نبیاً یعلم انه یكفر بعد نبوته..


الى غیر ذلك من أمور ذكرها المؤلفون فی الملل والنحل فراجعها ان شئت(1).


واللافت ان نجدة الحروری قد اعترض على ابن الأزرق، لما بلغه استعراض نافع للناس، وقتله للاطفال، واستحلاله الأمانة، فكتب إلیه رسالة ینعى علیه قوله هذا، ویبین له خطأه فیه، ومخالفته لصریح القرآن فی ذلك(2).


____________



(1) راجع: الملل والنحل ج1 ص 121 و 122 وتلبیس إبلیس ص 95 وتهذیب تاریخ دمشق ج4 ص 147 وشرح النهج للمعتزلی ج4 ص 136 و138 وفجر الاسلام ص 260 والعبر ودیوان المبتدأ والخبر ج3 ص 145 والعقد الفرید ج1 ص 223 وراجع: الكامل فی التاریخ ج4 ص 168 والإباضیة عقیدةً ومذهباً ص 28 و29 و34 و«الخوارج» عقیدةً وفكراً وفلسفةً ص 70 و71 و72 وراجع: تاریخ المذاهب الاسلامیة ج1 ص 81..


(2) العقد الفرید ج2 ص 396 و397..













الصفحة 391


وقد ذكرنا فی فصل زهد الخوارج: أن قطری بن الفجاءة أرسل «الخوارج» الذین جاءوا من كرمان وفارس ـ أرسلهم ـ مع صالح بن مخراق، وسعد الطلائع لمحاربة عبد العزیز، اخی المهلب، فهزموه «فسبوا النساء یومئذ، وأخذوا أسرى لا تحصى. فقذفوهم فی غار بعد ان شدوهم وثاقاً، ثم سدوا علیهم بابه، حتى ماتوا فیه»(1).


وعن طباع «الخوارج»، ومعاملتهم حتى لأقرب الناس إلیهم نذكر: أن عیال وابناء قطری بن الفجاءة كانوا فی منزل جرموز المازنی، وكان یمونهم، وینفق علیهم، فطلب جرموز من قطری بن الفجاءة الذی كان یشتری السیف بعشرین الف درهم ان یبعث إلیه ابناءه یجیرهم، ویعینهم.


فقال له قطری: انه إن بعث إلیه بهم ضرب اعناقهم، وبعث إلیه برؤوسهم.


فتعجب جرموز من هذه المفارقة.. حیث إنه هو یمون عیال قطری، ویغذیهم، وقطری یرید أن یذبح له ابناءه، ویرسل إلیه بروؤسهم.


فقال له قطری: «إن الذی صنعت بعیالی تراه فی دینك، وإن الذی أصنعه بعیالك شیء اراه فی دینی»(2).


وقال المسعودی: «ظهر من فعل صاحب الزنج تصدیق ما رمی به، من كونه على رأی «الخوارج»، من قتله النساء، والأطفال، والشیخ الفانی»(3).


____________



(1) الكامل للمبرد ج3 ص355 والخوارج فی العصر الأموی ص 154 عنه..


(2) البرصان والعرجان ص 67..


(3) بهج الصباغة ج7 ص 166 عن مروج الذهب..













الصفحة 392


ومن ذلك كله.. تعرف السر فی عدم تمامیة امرهم.. بالإضافة إلى أسباب أخرى، ستأتی الإشارة إلیها فی ضمن الفصول الآتیة، إن شاء الله تعالى.


كما أن مما ذكرناه ونذكره، یتضح عدم صحة ما قاله ابن خلدون، من أنه «لم یتم امرهم، لمزاحمتهم العصبیة القومیة»(1).


بل الحقیقة هی ان طریقة بنی امیة، تستهوی النفوس البشریة الضعیفة أكثر من طریقة «الخوارج»، لأنهم یدعون إلى الدنیا، وإلى زبارجها، وبهارجها، التی ینساق إلیها الناس بغرائزهم، وتنسجم مع هوى نفوسهم.


ج: محدودیة مطامع «الخوارج»:


إن «الخوارج»، وإن كانوا على ضلال، إلا أنهم كانوا ـ دون شك أقل سوءاً من الأمویین. لأنهم یقاتلون من أجل هدف یرونه دیناً مقدساً، فهم وان أخطأوا الطریق من حیث إنهم لم یقاتلوا بنی أمیة مع امام حق. بل لقد حاربوا الإمام المنصوب من قبل الله تعالى، ورفضوا الانقیاد له، لكنهم محقون فی سعیهم لإزالة حكم الجبارین، فهم قد طلبوا حقاً فوقعوا فی الباطل، وأرادوا صواباً فتاهوا فی الضلال والفساد، من حیث معاداتهم الإمام المنصوب، وعدم انقیادهم له أو انضوائهم تحت لوائه.


أما بنو أمیة فانهم قد طلبوا الخلافة فأدركوها وهم لیسوا من أهلها بل هم یعلمون أنهم یطلبون ما لیس لهم بحق، مع خبث نفوسهم، وشدة ظلمهم وفجورهم..


____________



(1) مقدمة ابن خلدون ص 69 وقضایا فی التاریخ الاسلامی ص 38.













الصفحة 393


هذا بالإضافة إلى أن هدم أساس الإسلام، وطمس معالم الدین كان من أهدافهم، ومن الأولویات لهم فی سیاساتهم..


ولم یكن هذا الأمر هدفاً صریحاً مباشراً للخوارج، وإن كانت مواقفهم وممارساتهم وأقاویلهم وأباطیلهم الناشئة عن الجهل والهوى، تؤدی إلى ذلك، وتنتهی إلیه، وسیأتی توضیح ذلك تحت عنوان: مقارنة بین بنی أمیة و«الخوارج»..


وعلى كل حال، فانهم وإن كانوا یسعون للحصول على شیء من حطام الدنیا، فإن ما یطلبونه فی الغالب كان من الأمور الحقیرة والصغیرة، ولم تكن ثمة طموحات كبیرة الا لدى الرؤساء، الذین كانوا یسعون إلى السلطة، كما تدل علیه بعض النصوص التی سجلها التاریخ عن بعض اولئك الزعماء، وفی حربهم لعلی أمیر المؤمنین (علیه السلام)، قد زین لهم الشیطان: انهم ظاهرون..


د: تصلب «الخوارج» ضد علی (علیه السلام):


إن ما كان یبدو علیهم من تصلب فی المواقف ضد أمیر المؤمنیین (علیه السلام)، فإنما كان بسبب ما كانوا یجدونه فی أنفسهم من حنق وحقد، كما عن الإمام الصادق (علیه السلام)، ولعل ذلك یرجع إلى أنهم لم یجدوا معه (علیه السلام) مجالاً لتحقیق كثیر من المآرب التی كانوا یطمحون إلى تحقیقها، حتى انهم فی حرب الجمل لم یتمكنوا من الحصول على السبایا بسببه (علیه السلام)، فأعلنوا عن سخطهم، وعدم رضاهم، كما ذكرناه فی موضع آخر من هذا الكتاب.












الصفحة 394


هـ: ما یؤثر فی اتخاذ مواقفهم:


إن مفاهیمهم الجاهلیة، وعصبیاتهم القبلیة، ومصالحهم الشخصیة وان لم تكن بعیدة عن التاثیر فی اتخاذهم لمواقفهم، الا انها كانت ملبسة بلباس الدین، ومبررة به، فقد كانوا مصداقاً بارزاً لقوله تعالى: «قل هل أنبئكم بالأخسرین أعمالاً الذین ضل سعیهم فی الحیاة الدنیا، وهم یحسبون انهم یحسنون صنعاً»(1). كما نصّ علیه سید الوصیین علی أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام).


ونسب ابن كثیر إلى بعض السلف تطبیق هذه الآیة على «الخوارج»، واستحسن ذلك(2).


فـ«الخوارج» إذن یرتكبون أبشع الجرائم باسم الدین، وتحت شعار الطاعة لله، والانقیاد له تعالى..


فلم یكن ثمة اعلان منهم بالجرأة على مقام العزة الالهیة، وهتك لحرمة مقام الربوبیة.. كما هو حال بنی أمیة، الذین كانوا یرتكبون أعظم من ذلك، ثم یزیدون فی الطنبور نغمة حین یجهرون بالاستهتار، ویعلنون بالجرأة على الله سبحانه، وتحدی مقام عزته وجبروته..


فنهج بنی امیة اذن اعظم شراً، وأشد خطراً، لأنه یجعل الكفر والجریمة نهجاً للأمة، وسبیلاً ترتضیه، دون ان تشعر بالهیبة الالهیة، وان


____________



(1) كشف الغمة ج1 ص 266 والمناقب لابن شهر آشوب ج3 ص 187 ومناقب الامام علی لابن المغازلی ص 58 و59 وفی هامشه عن شرح نهج البلاغة للمعتزلی ج1 ص 206 وج2 ص 278 وعن الكامل فی الادب وعن الدر المنثور ج3 ص253 عن الفریابی، وعبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبی حاتم، وابن مردویه. وراجع: نظم درر السمطین ص 127 والثقات ج2 ص 296 والفتوح لابن اعثم ج4 ص 127.


(2) البدایة والنهایة ج7 ص 286.













الصفحة 395


تخشى بطش دیان الدین.. ولا تبقى أیضاً أیة فرصة لإعادة الأمور إلى نصابها حیث إن الناس لا یخافون الله، ولایهتمون لأوامره وزواجره، لیمكن بذل المحاولة عن هذا السبیل.


أما «الخوارج».. فانهم رغم كل موبقاتهم لا یزالون یعلنون أنهم یلتزمون بالدین، ویقبلون بأحكامه.. فیمكن للناس اذن ان یحتجوا علیهم بالدین، وان یأخذوهم بالوقوف عنده، والانتهاء إلیه..


فهم لم یوصدوا الباب بصورة نهائیة. بل لا یزال هناك منفذ یمكن الاستفادة منه لتعریف الناس على الحق، وهدایتهم إلیه، وحملهم على الالتزام به.


و: المغرورون بشعارات «الخوارج»:


كما أنه قد كان من الطبیعی ان یوجد العدید من الناس الذین یغترون بشعارات «الخوارج» البراقة، فیخلصون فی مواقفهم، ویستمیتون من أجلها، وإن لم یكن لهؤلاء مواقع قیادیة بارزة، أو تأثیر ظاهر فی القرارات، التی كانت تتخذ بصورة عامة..


ز: مقارنة بین بنی أمیة و«الخوارج»:


إن بنی أمیة كانوا یعرفون الحق، ویحاربونه استكباراً، وظلماً وعلوا، وعن سابق تصمیم وتخطیط.. وقد طلبوا الباطل المتمثل بالملك والسلطة والدین، من دون كلل اوملل، فادركوا ما طلبوا، وأرادوا الدنیا، ونیل شهواتها، والفساد والافساد فیها، فحصلوا على ما ارادوا. مع ما هم علیه من خبث نفوس، ومن ظلم لا یضاهى، وفجور لا یجارى، وبذل جهد فی طمس الحق.












الصفحة 396


أما «الخوارج».. فانهم حین قاتلوا أمیر المؤمنین (علیه السلام) انما ارادوا الدنیا، واملوا بالحصول على بعض حطامها، وزین لهم الشیطان انهم ظاهرون. وقد اوقعهم فی ذلك غرورهم الذی ارداهم، وطیشهم وقلة عقولهم، وجهلهم الذریع الذی یسّر دخول الشبهة علیهم حیث تمكنت فی نفوسهم، ووقعوا فی الشك والریب،فهم حین ارادوا ان یقیسوا مواقفهم على نصوص الدین لیعرفوا الحق اختلطت علیهم الأمور ـ بسبب طیشهم، ورعونتهم وجهلهم، وانقیادهم لأهوائهم ـ فوقعوا فی الباطل. ولكنهم حین تصدوا لقتال الأمویین لم یكن لدیهم ای شك وشبهة، بل قاتلوهم عن تدین واعتقاد منهم بظلم الأمویین وفسادهم، ووجوب حربهم، وإن كانوا أیضاً قد أحبوا الحصول على حطام الدنیا من وراء قیامهم بهذا الواجب، الذی یعتقدونه، ولكن قد كان علیهم أن یقاتلوهم مع امام عادل، وبأمره.


و«الخوارج» قد تمردوا على امام الحق، وحاربوه وقاتلوه. فهم قد أصابوا فی التصدی لحكم الجبارین، ولكنهم أخطأوا فی حربهم لإمامهم، وفی التصدی لذلك بدون أمره وقیادته..


ومن الواضح: أن من یرید الصلاح، یكون افضل من الذی لا یریده. بل یرید الفساد، ومن یطلب الحق فیخطئه ویقع فی الباطل، والشك، فانه افضل من ذلك الذی لا یطلب الا الباطل عن سابق علم وتخطیط واصرار، ثم هو یحاول اطفاء نور الله، وتكریس باطله بكل ما اوتى من قوة وحول.


ولیس أدل على ذلك من أن حكم الأمویین الذی كرسه لهم معاویة قد بدأ باكذوبة فاضحة هی أنه اعتل اولاً بالطلب بدم عثمان، مع أن












الصفحة 397


ولی دم عثمان لیس معاویة وإنما هم أولاد عثمان.


أضف إلى ذلك: أنه لا یحق لهم الطلب بدمه بطریقة نصب الحرب لولی الامر، ثم ارتكاب المجازر الهائلة التی حصدت عشرات الألوف من المسلمین، ثم استمر حكم الجبارین الذین یریدون جعل مال الله دولاً، واتخاذ عباده خولا.


وعلى كل حال فان أمیر المؤمنین (علیه السلام) قد أشار إلى ذلك حینما قال حسبما تقدم: «لاتقتلوا الخوارج بعدی، فلیس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه» كما أن الإمام الحسن (علیه الصلاة والسلام) قد واجه معاویة بنفس هذا الكلام، حینما طلب منه معاویة ان یتولى حرب «الخوارج»، فأسكته(1).


وقال لهم عمر بن عبد العزیز: «إنی قد علمت أنكم لن تتركوا الأهل والعشائر، وتعرضتم للقتل والقتال إلا وأنتم ترون أنكم مصیبون، ولكنكم اخطأتم وضللتم، وتركتم الحق»(2).


والنص الآخر المروی عن عمر بن عبد العزیز، أنه قال لبعض «الخوارج»: «انی قد علمت: انكم لم تخرجوا مخرجكم هذا لطلب دنیا أو متاع، ولكنكم اردتم الآخرة، فأخطأتم سبیلها»(3).


____________



(1) علل الشرایع ص 218.


(2) جامع بیان العلم ج2 ص 129.


(3) العیون والحدائق ص 44، وتاریخ ابن خلدون ج3 ص162 وفجر الاسلام ص263. ومروج الذهب ج3 ص 191 والعقد الفرید ج2 ص 401.













الصفحة 398


فلا نوافق على قوله: انهم لم یطلبوا الدنیا. اذ انهم كانوا یطلبونها..ولكنهم أیضاً كانوا یطلبون الحق فأخطأوه.


وأصرح من ذلك: ما جاء من أنه (علیه السلام) «بلغه: أن الناس یرون تقدیم الخوارج [ای فی القتال] فقال لهم: ان قتال أهل الشام أهم علینا، لأنهم یقاتلوكم لیكونوا ملوكا جبارین، ویتخذون عبادا لله خولا..»(1).


وعلى حد تعبیر ابن قتیبة: «إلا أن غیر هذه الخارجة اهم على أمیر المؤمنین، سیروا إلى قوم یقاتلونكم كیما یكونوا فی الأرض جبارین ملوكاً، ویتخذهم المؤمنون أرباباً، ویتخذون عباد الله خولا الخ..»(2).


وقد كان أنصارهم أهل الشام، الذین وصفهم أمیر المؤمنین علیه لسلام بقوله: «اعراب، واحزاب، وأهل طمع، جفاة طغام، تجمعوا من كل أوب، ممن ینبغی أن یؤدب ویولى علیه، ویؤخذ على یدیه، لیسوا من المهاجرین والأنصار، ولا من التابعین بإحسان»(3).


ح: عدل «الخوارج» وتحرّیهم للحق:


قد تقدم: أن «الخوارج» كانوا ـ فی الظاهر ـ من العباد والزهاد، والمتصلبین فی الحق، حتى أصبحوا لدى الناس، الذین لا یفقهون من الأمور إلا ظواهرها،مضرب المثل فی العدل، وتحری الحق.. حتى


____________



(1) تاریخ ابن خلدون ج2 قسم2 ص 180 وتاریخ الطبری ج4 ص59 والكامل لابن الاثیر ج3 ص 341..


(2) الامامة والسیاسة ج1 ص 145 وقریب منه فی مروج الذهب ج2 ص 404 والنصائح الكافیة ص 26 والفصول المهمة لابن الصباغ ص 91..


(3) الامامة والسیاسة ج1 ص 156..













الصفحة 399


لیقول ابن حزم، عن عنبسة بن اسحاق، الذی ولی مصر فی زمن المتوكل أربع سنین: «.. وكان یتهم بمذهب الخوارج، لشدة عدله، وتحریه للحق، وهو آخر عربی ولی مصر»(1).


إذن.. فلم یكن لیجترئ على حربهم غیر أمیر المؤمنین (علیه السلام).. وكل من یتصدى لحربهم سواه لربما لا یستطیع ان یدافع عن نفسه كثیراً، ولاسیما إذا كان الإعلام الموجه من قبل اجهزة الحكم سیكون ضده، وسیسعى لضربه وإسقاطه عن هذا الطریق.


أما إذا كان من یتصدى لحربهم هم أهل البیت وشیعتهم، فان الاعلام الاموی الخبیث والزبیری الحاقد المسموم سوف لا یدخر وسعاً، ولا یألوا جهداً فی سبیل توجیه الضربات الماحقة لهم، ولكل ما یتصل بهم من قریب أو من بعید..


كما ان العراق المیال لعلی (علیه السلام)، واهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم سینشغل بقضیة لن تكون نتائجها الا تمزق اوصاله، واهتزاز وزعزعة ثباته، الامر الذی یقلل من فرص اجتیاح المد الشیعی على شكل تعاطف ومحبة وولاء لأهل البیت (علیهم السلام) لمناطق اخرى تقع فی نطاق اهتمامات الحكم الاموی البغیض..


أضف إلى ذلك: أن تولی هؤلاء لحرب «الخوارج» معناه: ان یتحملوا هم آثار الحرب ویعانون من ویلاتها، ویبتلون بمخلفاتها غیر المرغوب فیها، ولا سیما على الصعید المعیشی والاجتماعی، وعلى صعید العلاقات، والابتلاء بالأحقاد التی تنشأ عن سفك الدماء عادة..


____________



(1) جمهرة انساب العرب ص 204..













الصفحة 400


الى آخر ما تقدمت الإشارة إلیه، ولا داعی لاعادته..


ط: حرب الشیعة للخوارج قضاء على الشیعة:


لقد كان الشیعة قلة ومضطهدین من قبل الحكم الاموی، ولم یكن لهم حكومة مركزیة تحمیهم وتدفع عنهم، فتكلیفهم بقتال «الخوارج» معناه المزید من اضعافهم هم و«الخوارج» على حد سواء، مع ما سینشأ من ترات وتمزقات ثم من عقد اجتماعیة ومشكلات انسانیة تشغل كل فریق بنفسه، أما الحكم الأموی فتبقى أموره متسعة، مع احتفاظه بكامل قواه، فی مقابل خصمین انهكت قواهما حروبهما مع بعضهما البعض، من دون ان یكلفه ذلك شیئاً. حتى إذا وجد الحكم الأموی فرصة فإنه سیسهل علیه القضاء على كل منهما وعلى كلیهما بیسر وسهولة، وشراسة وقسوة.


وبدیهی: أن الحفاظ على الشیعة اهم وافضل بكثیر من القضاء علیهم وعلى «الخوارج»، مع بقاء الحكم الاموی محتفظاً بكل قواه، یتحكم بمقدرات الأمة، ویسومها الخسف والذل والهوان.


ی: الشیعة حاربوا «الخوارج» بعد علی (علیه السلام):


ومع ذلك.. فلربما یستظهر من كلام المهلب المتقدم: «فقاتلوهم على ما قاتلهم علیه علی بن أبی طالب صلوات الله علیه» هو ان أقواماً من الشیعة كانوا ربما شاركوا فی قتال «الخوارج» أیضاً بل كانوا یشكلون العمود الفقری لجیش المهلب. وذلك بعد أن كان الأمویون یسعون لدفع الشیعة العراقیین، بل وإرغامهم على حربهم، فان معاویة قد اخبر












الصفحة 401


اهل الكوفة: انه لا امان لهم عنده، حتى یدفعوا عنه بوائقهم(1) یقصد حركات «الخوارج» ضده.


وحین جهز المغیرة بن شعبة ثلاثة آلاف مقاتل، جعل معظمهم من شیعة علی (علیه الصلاة والسلام)، بل كانوا نقاوة الشیعة. وكانوا بقیادة معقل بن قیس أحد القواد الذین كانوا فی جیش علی (علیه السلام)، ومن المعروفین فیهم وفرسانهم ـ على حد تعبیر الطبری، وغیره ـ.


كما ان ابن عامر قد جهز من البصرة ثلاثة آلاف من الشیعة أیضاً، وكان أكثرهم من ربیعة، الذین كان رأیهم فی الشیعة(2).


والحجاج أیضاً قد نكل بأهل العراق، وقتل منهم من قتل، وفعل الافاعیل، بهدف ارغامهم على حرب «الخوارج»(3) وقد كان من نتیجة فعل الحجاج هذا: ان خرج الناس إلى السواد هرباً، وطلبوا من اهالیهم تزویدهم وهم فی مكانهم، فازدحم الرجال على المهلب(4).


وفی بعض حروب الجیش الذی جهزه الامویون لمواجهة «الخوارج»، قتل مع عبد الرحمن بن مخنف سبعون رجلاً من القراء، فیهم نفر من أصحاب علی بن أبی طالب، ونفر من أصحاب ابن مسعود(5).


____________



(1) راجع: الكامل فی الادب ج3 ص 240 والعقد الفرید ج1 ص 216 وشرح النهج للمعتزلی ج5 ص 98 وج16 ص 14 والكامل فی التاریخ ج3 ص 409 وتاریخ الامم والملوك ج4 ص 148 و147.


(2) العبر ودیوان المبتدأ والخبر ج3 ص 143 وتاریخ الامامیة ص51 وتاریخ الامم والملوك ج4 ص 144 و148 والكامل فی التاریخ ج3 ص430 و431..


(3) راجع على سبیل المثال: الكامل فی الادب ج3 ص 366 ـ 307 ومروج الذهب ج3 ص127ـ129..


(4) مروج الذهب ج3 ص 127 ـ 129..


(5) شرح نهج البلاغة للمعتزلی ج4 ص 188 والكامل فی الادب ج3 ص372.













الصفحة 402


من أسباب زج الشیعة فی حروب «الخوارج»:


وقد كان من اسباب اهتمامهم بارسال الشیعة لقتال «الخوارج»، بالإضافة إلى ما تقدم، ما ذكره المغیرة بن شعبة، حینما قال لصاحب شرطته: «الصق بمعقل شیعة علی، فانه كان من روؤساء اصحابه، فاذا اجتمعوا استأنس بعضهم ببعض، وهم اشد استحلالاً لدماء هذه المارقة، وأجرأ علیهم من غیرهم، فقد قاتلوهم قبل هذه المرة»(1).


ومهما یكن من امر، فقد استمر الائمة (علیهم السلام) فی العمل على تجنیب شیعتهم الصدام مع «الخوارج»، فقد قال الشیخ المفید: «.. وحریز بن عبد الله انتقل إلى سجستان، وقتل بها، وكان سبب قتله: انه كان له اصحاب یقولون بمقالته. وكان الغالب على سجستان الشراة. وكان أصحاب حریز یسمعون منهم ثلب أمیر المؤمنین (علیه السلام) وسبه، فیخبرون حریزاً ویستأمرونه فی قتل من یسمعون منه ذلك، فأذن لهم، فلا یزال الشراة یجدون منهم القتیل بعد القتیل، فلا یتوهمون على الشیعة لقلة عددهم، ویطالبون المرجئة، ویقاتلونهم.


فلا یزال الأمر هكذا، حتى وقفوا علیه فطلبوهم، فاجتمع أصحاب حریز إلى حریز فی المسجد، فعرقبوا علیهم المسجد، وقلبوا أرضه، رحمهم الله..»(2).


والظاهر: ان حریزا لم یمت فی هذه الحادثة. ویدل على نجاته منها قول النجاشی عن حریز هذا: «.. وكان ممن شهر السیف فی قتال


____________



(1) راجع: تاریخ الامم والملوك ج4 ص 144 والكامل فی التاریخ ج3 ص 429.


(2) الاختصاص للشیخ المفید ص 207 والبحار ج7 ص 294، وقاموس الرجال ج3 ص109.













الصفحة 403


الخوارج بسجستان فی حیاة أبی عبد الله. وروی انه جفاه، وحجبه عنه»(1).


ویكون جفاؤه (علیه السلام) له من شأنه ان یفهم الناس ان ما كان انما هو مبادرة شخصیة من حریز، ولا تمثل رأی القیادة، والخط العام للائمة واتباعهم. وانه لا داعی لفتح معركة معهم، مع وجود العدو الأخطر والأشر وهو العدو الاموی الظالم.


آثار حروب «الخوارج» على الحكم الاموی:


نعم.. ولقد كانت النتیجة: أن هدت حروب «الخوارج» الحكم الأموی، وأنهكت قواه، ومهدت السبیل لاسقاطه، اذ بسبب انشغال مروان الحمار بحروب «الخوارج»، لم یستطع أن یمد ید العون لعامله على خراسان، نصر بن سیار، الذی كان یواجه ابا مسلم الخراسانی، الذی تابع حركته وانتصاراته، حتى قضى على الحكم الاموی قضاء مبرما ونهائیاً(2).


معاویة یحاول الزج بالشیعة:


وقد تقدم: ان معاویة قد حاول ان یزج بالإمام الحسن (علیه السلام) فی حرب «الخوارج»، ولكنه (علیه السلام) قد امتنع من ذلك، وقال له نفس الكلمة التی قالها ابوه (علیه السلام) من قبل:


«انه لیس من طلب الحق، فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه».


____________



(1) رجال النجاشی ص 111 ورجال المامقانی ج1 ص 262 وراجع ص 259 وقاموس الرجال ج3 ص 108 وراجع: اختیار معرفة الرجال ص 336 و384..


(2) مروج الذهب ج3 ص 240 وتاریخ ابن خلدون ج3 ص 119 و120..













الصفحة 404


فأسكت معاویة(1).


وأیضاً.. فانه بعد الهدنة بین الإمام الحسن (علیه الصلاة والسلام)، ومعاویة بن أبی سفیان، وحین تحرك «الخوارج» فی الكوفة ضد معاویة، وقالوا: «قد جاء الآن ما لا شك فیه»(2).


نجد معاویة یرسل إلى الإمام الحسن (علیه السلام) ـ وهو فی طریقه إلى المدینة ـ بكتاب یدعوه فیه إلى قتال «الخوارج»، فلحقه رسوله بالقادسیة، أو قریباً منها..


لكن الإمام (علیه السلام) لم یرجع، وكتب إلى معاویة: «لو آثرت ان اقاتل احداً من أهل القبلة، لبدأت بقتالك» أو ما بمعناه، أو قال له: «سبحان الله، تركت قتالك وهو لی حلال، لصلاح الأمة والفتهم، أفترانی أقاتل معك؟»(3).


وهذا.. إن دل على شیء، فإنما یدل على أن الأمویین، وعلى رأسهم معاویة، قد حاولوا، وكرروا المحاولة.. أن یزجوا بخصومهم، أعنی أهل


____________



(1) علل الشرایع ص 218 والبحار ج4 ص 13 وسفینة البحار ج1 ص384..


(2) تاریخ الطبری ج4 ص 126 والبدایة والنهایة ج8 ص 22 والكامل لابن الأثیر ج3 ص 409 وكتاب امیر المؤمنین للشری والغدیر ج10 ص 173..


(3) راجع الكامل لابن الاثیر ج3 ص 409 والكامل للمبرد ج3 ص 240 والعقد الفرید ج1 ص 216 وشرح النهج للمعتزلی ج5 ص 98 وراجع ج16 ص 14 والنصائح الكافیة ص 26 عن نیل الأوطار، وأنساب الأشراف [بتحقیق المحمودی] ج3 ص 64، وتقویة الایمان ص 73 والبحار ج44 ص 106 وكشف الغمة ج2 ص 199، والغدیر ج10 ص 160 و173 عن المعتزلی وقد نقلوا ذلك أیضاً عن رغبة الآمل ج7 ص 178 وراجع نزهة الناظر وتنبیه الخاطر للحلوانی ص 34..













الصفحة 405


البیت وشیعتهم فی حروب «الخوارج»، وما ذلك الا من اجل ما قدمناه.. ونجد الإمام الحسن (علیه السلام) یعلل رفضه لذلك بما یدل على تفهم كامل لأبعاد قتال هؤلاء الذین یكون نصر الأمویین علیهم اخطر، وأمر وأدهى..


وقد أشرنا إلى بعض ما یفید فی فهم بعض هذه الأمور؛ فلا نعید..


تعلیل المعتزلی لا یصح:


وبعد.. فإن المعتزلی الحنفی یفسر نهی أمیر المؤمنین (علیه السلام) عن قتال «الخوارج» بعده، بنحو آخر، فهو یقول: «لا ریب أن «الخوارج» إنما برىء أهل الدین والحق منهم، لانهم فارقوا علیاً، وبرئوا منه، وما عدا ذلك من عقائدهم، نحو القول بتخلید الفاسق فی النار، والقول بالخروج على أمراء الجور، وغیر ذلك من اقاویلهم، فان اصحابنا یقولون بها، ویذهبون إلیها، فلم یبق ما یقتضی البراءة منهم الا براءتهم من علی.


وقد كان معاویة یلعنه على رؤوس الأشهاد، وعلى المنابر فی الجمع والاعیاد، فی المدینة، ومكة، وفی سائر مدن الإسلام، فقد شارك «الخوارج» فی الأمر المكروه منهم، وامتازوا علیه باظهار الدین، والالتزام بقوانین الشریعة، والاجتهاد فی العبادة، وانكار المنكرات، وكانوا أحق بأن ینصروا علیه، من أن ینصر علیهم، فوضح بذلك قول أمیر المؤمنین: «لا تقتلوا الخوارج بعدی» یعنی فی ملك معاویة..»(1).


ولكننا نلاحظ على كلام المعتزلی: أموراً كثیرة وهی:


____________



(1) شرح النهج للمعتزلی ج5 ص131.













الصفحة 406


1 ـ إنه خص نهی أمیر المؤمنین (علیه السلام) عن قتالهم بملك معاویة مع أنه أعم من ذلك. وقد استشهد نفس المعتزلی باستعانة ابن الزبیر بهم على یزید بن معاویة بعد هذا الكلام مباشرة.


2 ـ إنه قد اعتبرهم أهل دین وعبادة، والتزام بقوانین الشریعة، ولم یكن الحال كذلك فی واقع الامر، فقد أخبر الرسول الأكرم (صلى الله علیه وآله) عنهم بأنهم یمرقون من الدین مروق السهم من الرمیة، وبانهم یقرؤون القرآن، ولا یجاوز تراقیهم. وقد أشرنا إلى شیء من هذه النصوص ومصادرها فی ما سبق.


كما أننا قد ذكرنا فی محله من هذا الكتاب: انهم أهل دنیا وطمع فیها..


هذا بالإضافة إلى أن مخالفاتهم الفاضحة للشریعة هی التی دعت علیاً أمیر المؤمنین (علیه السلام) إلى حربهم، كما عرفنا..


3 ـ وملاحظة ثالثة لنا علیه، وهی رضاه عن قولهم بتخلید الفاسق فی النار، فإن ذلك من مقالات المعتزلة، ولیس مما یذهب إلیه سائر المسلمین. وقد فند الشیعة هذا القول بما لا مزید علیه.. وكونه (صلى الله علیه وآله) قد ادخر الشفاعة لأهل الكبائر من امته یبطل هذا القول.


4 ـ وأخیراً.. فانه قد اعتبر أقاویلهم موافقة لما یقوله غیرهم من المسلمین، وتقدم وسیأتی شطر من أقاویلهم الفاضحة تلك التی لا یقرها عقل ولا یرضى بها وجدان، ولم یوافقهم علیها غیرهم.


وموافقة شاذ فی واحد من الموارد لا یعنی موافقة الآخرین، ولا هو على حد القول بكل تلك الأقاویل الشنیعة مجتمعة، وذلك ظاهر لا یحتاج إلى بیان.